كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك}..
اذكر حالي ووضعي وحقيقتي عند سيدك وحاكمك الذي تدين وتخضع لحكمه، فهو بهذا ربك. فالرب هو السيد والحاكم والقاهر والمشرع.. وفي هذا توكيد لمعنى الربوبية في المصطلح الإسلامي. ومما يلاحظ أن ملوك الرعاة لم يكونوا يدعون الربوبية قولاً كالفراعنة، ولم يكونوا ينتسبون إلى الإله أو الآلهة كالفراعنة. ولم يكن لهم من مظاهر الربوبية إلا الحاكمية وهي نص في معنى الربوبية.
وهنا يسقط السياق أن التأويل قد تحقق، وأن الأمر قد قضي على ما أوله يوسف. ويترك هنا فجوة، نعرف منها أن هذا كله قد كان. ولكن الذي ظن يوسف أنه ناج فنجا فعلاً لم ينفذ الوصية، ذلك أنه نسي الدرس الذي لقنه له يوسف، ونسي ذكر ربه في زحمة حياة القصر وملهياتها وقد عاد إليها، فنسي يوسف وأمره كله..
{فأنساه الشيطان ذكر ربه}..
{فلبث في السجن بضع سنين}..
والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف. وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. وكان هذا من اصطفائه وإكرامه.
إن عباد الله المخلصين ينبغي أن يخلصوا له سبحانه، وأن يدعوا له وحده قيادهم، ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم. وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحباً وشوقاً.. فيتم عليهم فضله بهذا كله..
والآن نحن في مجلس الملك، وقد رأى رؤيا أهمته، فهو يطلب تأويلها من رجال الحاشية ومن الكهنة والمتصلين بالغيبيات:
{وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}..
طلب الملك تأويل رؤياه. فعجز الملأ من حاشيته ومن الكهنة عن تأويلها، أو أحسوا أنها تشير إلى سوء لم يريدوا أن يواجهوا به الملك على طريقة رجال الحاشية في إظهار كل ما يسر الحكام وإخفاء ما يزعجهم. وصرف الحديث عنه! فقالوا: إنها {أضغاث أحلام} أي أخلاط أحلام مضطربة وليست رؤيا كاملة تحتمل التأويل. {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين}.. إذا كانت أضغاثاً مختلطة لا تشير إلى شيء!
والآن لقد مرت بنا رؤى ثلاث: رؤيا يوسف، ورؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك. وطلب تأويلها في كل مرة، والاهتمام بها يعطينا صورة من جو العصر كله في مصر وخارج مصر كما أسلفنا وأن الهبة اللدنية التي وهبها يوسف كانت من روح العصر وجوه، على ما نعهد في معجزات الأنبياء، فهل كانت هذه هي معجزة يوسف؟ ولكن هذا بحث ليس مكانه هذه الظلال. فنكمل حديث رؤيا الملك الآن!
هنا تذكر أحد صاحبيه في السجن، الذي نجا منهما وأنساه الشيطان ذكر ربه، وذكر يوسف في دوامة القصر والحاشية والعصر والخمر والشراب.. هنا تذكر الرجل الذي أوّلَ له رؤياه ورؤيا صاحبه، فتحقق التأويل:
{وقال الذي نجا منها وادكّر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون}!
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون.. ويسدل الستار هنا، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه:
{يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون}.
والساقي يلقب يوسف بالصدّيق، أي الصادق الكثير الصدق. وهذا ما جربه في شأنه من قبل..
{أفتنا في سبع بقرات سمان...}..
ونقل الفاظ الملك التي قالها كاملة، لأنه يطلب تأويلها، فكان دقيقاً في نقلها، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولاً، وليجيء تأويلها ملاصقاً في السياق لذكرها.
ولكن كلام يوسف هنا ليس هو التأويل المباشر المجرد، إنما هو التأويل والنصح بمواجهة عواقبه. وهذا أكمل:
{قال تزرعون سبع سنين دأباً}..
أي: متوالية متتابعة. وهي السنوات السبع المخصبة المرموز لها بالبقرات السمان.
{فما حصدتم فذروه في سنبله}..
أي فاتركوه في سنابله لأن هذا يحفظه من السوس والمؤثرات الجوية.
{إلا قليلاً مما تأكلون}..
فجردوه من سنابله، واحتفظوا بالبقية للسنوات الأخرى المجدبة المرموز لها بالبقرات العجاف.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد}..
لا زرع فيهن.
{يأكلن ما قدمتم لهن}..
وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها!
{إلا قليلاً مما تحصنون}..
أي إلا قليلاً مما تحفظونه وتصونونه من التهامها!
{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون}..
أي ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب. تنقضي ويعقبها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء، وتنمو كرومهم فيعصرونها خمراً، وسمسمهم وخسهم وزيتونهم فيعصرونه زيتاً..
وهنا نلحظ أن هذا العام الرخاء لا يقابله رمز في رؤيا الملك؛ فهو إذن من العلم اللدني الذي علمه الله يوسف. فبشر به الساقي ليبشر الملك والناس، بالخلاص من الجدب والجوع بعام رخيّ رغيد.
وهنا كذلك ينتقل السياق إلى المشهد التالي. تاركاً فجوة بين المشهدين يكمل التصور ما تم فيها من حركة. ويرفع الستار مرة أخرى على مجلس الملك. ويحذف السياق ما نقله الساقي من تأويل الرؤيا، وما تحدث به عن يوسف الذي أولها. وعن سجنه وأسبابه والحال التي هو فيها.. كل أولئك يحذفه السياق من المشهد، لنسمع نتيجته من رغبة الملك في رؤية يوسف، وأمره أن يأتوه به:
{وقال الملك ائتوني به}..
ومرة ثالثة في المشهد يحذف السياق جزئيات تفصيلية في تنفيذ الأمر. ولكنا نجد يوسف يرد على رسول الملك الذي لا نعرف: إن كان هو الساقي الذي جاءه أول مرة. أو رسولاً تنفيذياً مكلفاً بمثل هذا الشأن. نجد يوسف السجين الذي طال عليه السجن لا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته، ويتبين الحق واضحاً في موقفه، وتعلن براءته على الأشهاد من الوشايات والدسائس والغمز في الظلام.
لقد رباه ربه وأدبه. ولقد سكبت هذه التربية وهذا الأدب في قلبه السكينة والثقة والطمأنينة. فلم يعد معجلاً ولا عجولاً!
إن أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقفين: الموقف الذي يقول يوسف فيه للفتى: اذكرني عند ربك، والموقف الذي يقول له فيه: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والفارق بين الموقفين بعيد..
{قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم}
لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن.. بهذا القيد.. تذكيراً بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها.. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة، دون أن يتدخل هو في مناقشتها.. كل أولئك لأنه واثق من نفسه، واثق من براءته، مطمئن إلى أن الحق لا يخفى طويلاً، ولا يخذل طويلاً.
ولقد حكى القرآن عن يوسف استعمال كلمة {رب} بمدلوها الكامل، بالقياس إليه وبالقياس إلى رسول الملك إليه. فالملك رب هذا الرسول لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه. والله رب يوسف لأنه هو حاكمه الذي يدين لسلطانه..
ورجع الرسول فأخبر الملك وأحضر الملك النسوة يستجوبهن والسياق يحذف هذا لنعلمه مما يليه:
{قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}..
والخطب: الأمر الجلل والمصاب. فكأن الملك كان قد استقصى فعلم أمرهن قبل أن يواجههن، وهو المعتاد في مثل هذه الأحوال، ليكون الملك على بينة من الأمر وظروفه قبل الخوض فيه. فهو يواجههن مقرراً الاتهام، ومشيراً إلى أمر لهن جلل أو شأن لهن خطير:
{ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه}.
ومن هذا نعلم شيئاً مما دار في حفل الاستقبال في بيت الوزير؛ ما قالته النسوة ليوسف وما لَمّحن به وأشرن إليه، من الإغراء الذي يبلغ درجة المراودة. ومن هذا نتخيل صورة لهذه الأوساط ونسائها حتى في ذلك العهد الموغل في التاريخ. فالجاهلية دائماً هي الجاهلية. إنه حيثما كان الترف، وكانت القصور والحاشية، كان التخلل والتميع والفجور الناعم الذي يرتدي ثياب الأرستقراطية!
وفي مثل هذه المواجهة بالاتهام في حضرة الملك، يبدو أنه لم يكن هنالك مجال للإنكار:
{قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء}!
وهي الحقيقة التي يصعب إنكارها. ولومن مثل هؤلاء النسوة. فقد كان أمر يوسف إذن من النصاعة والوضوح بحيث لا يقوم فيه جدال.
وهنا تتقدم المرأة المحبة ليوسف، التي يئست منه، ولكنها لا تستطيع أن تخلص من تعلقها به.. تتقدم لتقول كل شيء في صراحة:
{قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}..
الآن حصحص الحق وظهر ظهوراً واضحاً لا يحتمل الخفاء:
{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}.
وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من إيثاره ورجاء تقديره والتفاته بعد كل هذا الأمد؛ وما يشي كذلك بأن عقيدة يوسف قد أخذت طريقها إلى قلبها فآمن:
{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وهذا الاعتراف وما بعده يصوره السياق هنا بألفاظ موحية، تشي بما وراءها من انفعالات ومشاعر. كما يشي الستار الرقيق بما وراءه في ترفع وتجمل في التعبير:
{أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين}.
شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. لا تبالي المرأة ما وراءها مما يلم بها هي ويلحق بأردانها.. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الإقرار الصريح في حضرة الملك والملأ؟
يشي السياق بحافز آخر، هو حرصها على أن يحترمها الرجل المؤمن الذي لم يعبأ بفتنتها الجسدية. أن يحترمها تقديراً لإيمانها ولصدقها وأمانتها في حقه عند غيبته:
{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب}..
ثم تمضي في هذه المحاولة والعودة إلى الفضيلة التي يحبها يوسف ويقدرها:
{وأن الله لا يهدي كيد الخائنين}..
وتمضي خطوة أخرى في هذه المشاعر الطيبة:
{وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}..
إنها امرأة أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها وإسلامها، فهي لا تملك إلا أن تظل معلقة بكلمة منه، أو خاطرة ارتياح تحس أنها صدرت عنه!
وهكذا يتجلى العنصر الإنساني في القصة، التي لم تسق لمجرد الفن، إنما سيقت للعبرة والعظة. وسيقت لتعالج قضية العقيدة والدعوة. ويرسم التعبير الفني فيها خفقات المشاعر وانتفاضات الوجدان رسماً رشيقاً رفيقاً شفيفاً. في واقعة كاملة تتناسق فيها جميع المؤثرات وجميع الواقعيات في مثل هذه النفوس، في ظل بيئتها ومؤثرات هذه البيئة كذلك.
وإلى هنا تنتهي محنة السجن ومحنة الاتهام، وتسير الحياة بيوسف رخاء، الاختبار فيه بالنعمة لا بالشدة. وإلى هنا نقف في هذا الجزء من الظلال، وتتابع القصة سيرها في الجزء التالي إن شاء الله.